Custom Search

الاثنين، 18 نوفمبر 2013

قصة وحكاية مشيئة الله! مياسة النخلاني

الأن مجلة نجاح العدد " 100 " في الإسواق

قصة وحكاية
مشيئة الله!
مياسة النخلاني
وضع الكتاب جانبا وطفق يراقب الشمس, وهي تتسلل بهدوء خلف الجبال بعد يوم طويل, كانت حنونة لآخر لحظة وهي تلقي على الجميع ابتسامة ذهبية ناعسة. ابتسم لها بدوره واتجه ببصره لمراقبة سنجاب صغير أخذ ينتقل على العشب الأخضر بحثًا عن حبات البندق, وسرعان ما ماتت الابتسامة في شفتيه بينما راحت عيناه تراقبان بأسى حركات السنجاب الرشيقة.
• كم أنت محظوظ يا صغيري
رددها في أعماقه وهو يضغط بقوة على مسند الكرسي, فإذا بقوة قبضته تخترق المعدن لتلتف حول قلبه وتعصره بقسوة, أحس بنبضات قلبه تتسارع في محاولة منه للتخلص من هذه القبضة المؤلمة لكن دون جدوى, تأوه بألم واضح وهو يرمي برأسه إلى الوراء محاولاً فك أزرار قميصه بيدين مرتعشتين.
كانت عيناه تحدقان في السحب الناعسة بنظرات شاردة, بينما راح يدلك صدره وعنقه براحه كفيه حتى استعاد قدرته على التنفس. مسح آثار الدموع من عينيه, وعاد لمراقبة السنجاب الذي كان قد ذهب..
تلفت حوله فلم يجد غير السكون يلف المكان, فقد غادر الجميع ولم يبق سواه متكورًا على كرسيه يتجرع مرارة العجز التي ألف مذاقها على منذ أعوام طويلة, تذكر أنه أيضاً لا بد وأن يؤدى طقوس الوداع، ويغادر..
التقط كتابه ووضعه في حقيبة صغيرة, بجانب بقايا طعامه وشرابه - زاده الذي ينطلق به صباحًا إلى مملكته الصغيرة - حيث اعتاد أن يطوي الساعات الطويلة, عالقًا بين دهاليز الماضي, تحت الشجرة الكبيرة التي شاركته الاستمتاع بحكايات أبيه البطولية حين كان ضابطًا في الجيش, تلك التي تفنن في سردها عليه كلما أتى به إلى هذا المتنزه طوال فترة طفولته..
• أنت بطل حقيقي يا أبي
قالها وهو يداعب كرته الصغيرة بقدميه بعد أن أخبره والده كيف أنقذ ثلاثة من أصدقائه من الأسر، ورفض التخلي عنهم ولو على حساب حياته.
• هل أصبت يومها؟!
- لم تكن إصابة خطيرة، لم يتطلب الأمر إلا شهرين كي استعيد عافيتي.
• شهرين كاملين وتقول إصابة بسيطة, أنت بطل حقيقي يا أبي.
- بل أنا إنسان يحب وطنه وأصدقائه يا صغيري.
وضع الكرة جانبًا وجلس إلى جانب والده, قبل يديه باعتزاز وهو يقول:
• عندما أكبر سأصبح مثلك جندي شجاع.
حمله والده بين ذراعيه ومنحه قبلة طويلة قبل أن يهمس له بحنان:
- بل ستكون أروع شاب على وجه الأرض يا بطلي الصغير.
حرك دواليب الكرسي مبتعدًا، فما أصعب العودة إلى تلك الفترة من الزمن، فبقدر روعتها إلا أنها كفيلة بزجه في بحرٍ لا ينتهي من الدموع.
- عاجز كبير!
قاوم دمعة حاولت التمرد عليه، وأكمل بصوت تخنقه العبرات:
- هذا ما أنا عليه الآن يا والدي العزيز!
أوقف دواليبه المتحركة تحت الشجرة مباشرة - كما تعود أن يفعل دائمًا– اقترب منها أكثر، راح يتحسس بأنامله المرتعشة الاسمين المنحوتين على جذعها الأشيب, شعر برجفة تسري في أوصاله، في حين راح صوتها الجميل يداعب أذنيه:
• اترك هذا الكتاب جانبًا، وتعال معي، سأريك شيئاً!
- حسنًا.. حسنًا!
لم تمهله حتى يقوم بنفسه، بل سحبت الكتاب من يديه, وقادته نحو الشجرة ذاتها, أشارت إليها وهي تقول ضاحكة:
• كنتَ مشغولا جدًا في مطالعة كتابك، فصنعتُ هذا التذكار الصغير لكلينا.
اقترب أكثر من الشجرة ليلمس بيديه نحتها غير المتقن، لكنه هتف صادقًا:
- رائع!
صاح بها وهو يراقبه بانبهار- مضى عام على زواجهما وقد اعتادا قضاء عطلة نهاية الأسبوع في هذا المكان الرائع- اقتربت منه وهمست في أذنيه:
• حين نصبح جدين سنحضر أحفادنا ونطلعهم على تذكارنا الجميل.
أومأ برأسه إيجابًا وهو يتحسسه برفق، قبل أن يقول في خفوت: من يدري؟!
سحب يده بسرعة قبل أن تباغته الدموع مجددًا, لتقذف به في أتوان الماضي الأليم, احتضنه بنظرات دامعة قبل أن تعود الدواليب المتحركة لإصدار صريرها الخافت مبتعدة عن المكان..
• ألا يمكن أن ينتظر الأمر حتى الصباح؟!
قالتها وهي تجهز نفسها بسرعة:
- لا.. فوالدي مريض جدًا، وعلي أن أكون بجانبه.
كان هاجس أن والده يعيش لحظاته الأخيرة يسيطر عليه, وفكرة أن يسبقه الموت إليه تفقده السيطرة على نفسه وتغيبه عن التفكير, فصوت أمه وهي تنقل له خبر مرض أبيه الشديد لا يبعث على الطمأنينة, ولا مجال للانتظار حتى الصباح, وضعا الأطفال عند جارتهم العجوز وانطلاقا مسرعين.
أخذت السيارة تسابق الزمن، بينما راح شريط ذكرياته الجميلة مع والده يمر أمام عينيه بتسارع, وكلما تسارعت الأحداث زاد من سرعة السيارة, فما عاد يفكر سوى بذلك الجسد الممدد أمامه دون حراك, تلفه الشراشيف البيضاء وعيناه الشاردتان تحتضنان السقف معلنة الصمت الأبدي.
اجتاحته رغبة عارمة لإطلاق صرخة مشبعة بالدموع والألم, وقبل أن تغادر حنجرته, اخترقت أعماقه صدى صرخة زوجته المذعورة, ليخرجه من ذلك المشهد نور ساطع عجز عن تفاديه وسرعان ما أعقبه ظلام دامس وسكون مطبق.
حين فتح عينيه مجددًا, عاد المشهد السابق يفرض نفسه بقوة، فالشراشيف البيضاء تغطي جسد ساكن, وعينيان تعانقان السقف الأبيض, في حين راح شبح الموت يلقي بردائه المقيت في أرجاء الغرفة, واستوطن الأسى وجوه الحاضرين, ووالده، نعم والده، كان جالساً على كرسيه شارد النظرات.
• أبي!
صدرت منه ضعيفة واهية إلا أنها كانت كفيلة برد الحياة والأمل لوجوه الحاضرين خاصة والده، الذي هب إليه يتحسس جسده ودموعه تغسل وجهه.
علت ملامح وجهه نظرات دهشة عابقة بالحزن والأسى، في حين راح والده يسرد له وقائع وعكته الصحية البسيطة التي انقلبت إلى مصيبة, وكاد أن يغشى عليه عندما علم أن زوجته توفيت في الحادث ليعيش ما تبقى من حياته حبيس كرسي بدواليب تصدر صريراً مزعجاً كلما تحركت، وحبيس ألم لا يفتأ يدق معاوله الحادة في منعطفات ذاكرته.
• إنها مشيئة الله!
تحركت بها شفتاه كلما سيطرت عليه هذه الأفكار, وأكملت الدواليب طريقها على مهل..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق