Custom Search

السبت، 18 يناير 2014

دموع الندم #مياسة النخلاني

.

أدب
#دموع الندم
#مياسة النخلاني 
تقلب في الفراش محاولاً استدعاء النوم لكن دونما فائدة، خرجت من شفتيه زفرة طويلة ونهض، وكما هي عادته إذا جافاه النوم فتح المصحف وأخذ يقرأ ويقرأ حتى وصل إلى آيات معينه, فأعاد قراءتها لأكثر من ثلاث مرات, ومع كل كلمة ينطق بها يهتز جسده كله.
( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ( 7 ) إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين ( 8 ) اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ( 9 )
أطبق عليه الصمت، كان جسده لا يزال يرتعش كورقة خريف يابسة وقد غطت عينيه غشاوة وخنقته العبرات، ترك المصحف و توجه صوب النافذة، احتاج وقتاً طويلا كي يستعيد قدرته على التنفس, ثم عاود الارتماء على الأريكة معلقاً بصره على السقف محدقاً في تفاصيله البيضاء, وكأنه يريد أن يهرب بين ثناياه من وقع الألم الذي يعتصر قلبه.
"اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا" شعر بها تتسلل من عقله, وتزحف ببطء على السقف لترمي بظلالها عليه, وما هي إلا لحظات حتى أحالت بياضه الخافت إلى ثوبا شديد السواد, وشيت أطرافه بقطرات حمراء قانية أخذت تتساقط على وجهه، مسحها بيديه فإذا هي دم لزج أثارت الرعب فيه، حاول النهوض لكن قوة ما قيدت حركته، كان يمسحها من وجهه بجنون، تلاحقت أنفاسه، في حين غطى الدم سائر جسده، وتناثرت في أرجاء الغرفة، أراد الصراخ فخانه صوته, وسريعاً تحولت الغرفة إلى بركة حمراء تحاول ابتلاعه وكأنها إخطبوط بشع يريد خنق أنفاسه، كان عاجزاً تماماً عن الحركة وقد أوشكت الدماء على ابتلاعه فاستجمع قواه وصرخ بأعلى صوته " سعيد!"
نهض من مكانه مفزوعاً يتحسس جسده بتوتر, ويتلفت حوله, فإذا السكون يلف المكان, همهم بالاستعاذة، لتدخل أمه الغرفة ومعالم الفزع ترتسم على وجهها المجعد وهي تردد:
"كوابيس مرة أخرى؟!"
ضمته إلى صدرها بحنان وهي تقرأ آيات الكرسي
"لم اقصد أن أقتله ... لم أقصد" كان يرددها وهو يبكي كطفل صغير"
"أسم الله عليك ... أسم الله عليك يا ولدي"
"لم أقصد أن أقتله"
"خلاص يا ابني يا حبيبي لا تعذب نفسك"
ساعدته على النهوض إلى سريره وناولته كوب الماء وحبه الدواء لتساعده على النوم.
"أخبرتك مراراً ألا تنسى الدواء لكنك لا تسمع الكلام"
طبعت على جبينه قبلة مبتلة بالدموع وهمست في أذنه:
"نم الآن ولا تفكر في شي, ما حدث قد حدث"
نفس الكابوس يتكرر كلما تجاهل تناول حبوبه، كم يتمنى أن يموت هذا الكابوس الفظيع، ويتركه يكمل بقية حياته بهدوء، لكنه لا يموت وكأن حياتهما قد ربطت ببعضهما بعد الحادثة إياها, ولا مجال لمغادرة أياً منهما الآخر إلا بالموت.
لم يكن ذنبه أن أباه لم يجد سعادته مع أمه وذهب ليتزوج أخرى، ولم يكن ذنبه أن قلبه يهفو نحو زوجته الأخرى أكثر من أمه، ويحب أطفاله منها أكثر مما يحبه, تعود أن يراقب بصمت كيف يدللهم, ويغدق عليهم بالعطف والحنان أكثر منه, بل لم يكن ليشعر بوجوده، كانت أخطاؤهم وهفواتهم بالنسبة له أجمل ما في الوجود, وإن أخطأ هو انهال عليه بالشتم وأحياناً الضرب.
حتى عندما كبروا ظل سعيد ورنا هما المقربان لدى والدهما, وليس له سوى حضن أمه المشبع بالدموع والقهر, ليتحول قلبه مع مرور الأيام إلى كتله من الحقد والكراهية، نعم كان يكره والده ويكره سعيد ويكره رنا ويكره خالته فاديه.
جلس يومها في حديقة المنزل يطالع كتابه بهدوء, فإذا بسعيد يطلب منه النهوض ليجلس، فهو لا يستطيع أن يذاكر إلا هناك –أو هكذا يدعي- "اذهب وابحث لك عن مكان آخر " لم يكد يكمل حديثه حتى ناداه والده من النافذة.
"اترك المكان لأخيك الصغير كي يذاكر وابحث لك عن مكان آخر"
شعر بصوت أبيه كمطرقة تدق على رأسه دون رحمة, التفت إلى سعيد فإذا بابتسامه نصر ترتسم على وجهه، لوهلة أحس أنه لا يستطع تحمل المزيد، غلى الدم في عروقه, وأظلمت الدنيا أمامه, وبات عاجزاً عن روية أي شيء.
"توقف أيها المجنون!"
بدد الظلام صوت أبيه وهو يصرخ فيه ويهزه بقوة ممسكا بكلتا يديه، أحس بشيء في يمينه فإذا به يمسك حجر يقطر منها الدم، وأمامه كانت خالته فاديه تبكي بشكل هستيري وهي تحتضن سعيد وقد أصيب رأسه بجرح بليغ، رمى الحجر من يديه, وراح يصرخ ويضرب رأسه كالمجنون، كانت أول مرة في حياته يخرج فيها عن هدوئه المعهود ويصرخ بتلك الطريقة, لكنها لم تكن الأخيرة...
بللت الدموع وسادته، فحاول أن يعتدل في جلسته, لكن تأثير الحبوب كان قد بدأ يسري في جسده فمنعته من الحركة.
أغمض عينيه وهو يتمتم "ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا...." ثم غط في نوم عميق.
***


#الموضوع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق